فصل: تفسير الآية رقم (92):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (92):

{عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)}
{عالم الغيب والشهادة} أي كل غيب وشهادة، وجر {عالم} على أنه بدل من الاسم الجليل أو صفة له لأنه أريد به الثبوت والاستمرار فيتعرف بالإضافة.
وقر أجماعة من السبعة. وغيرهم برفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو عالم، والجر أجود عند الأخفش والرفع أبرع عند ابن عطية، وأيًا ما كان فهو على ما قيل إشارة إلى دليل آخر على انتفاء الشريك بناء على توافق المسلمين والمشركين في تفرده تعالى بذلك. وفي الكشف أن في قوله سبحانه: {عالم} إلخ إشارة إلى برهان آخر راجع إلى إثبات العلو أو لزوم الجهل الذي هو نقص وضد العلو لأن المتعددين لا سبيل لهما إلى أن يعلم كل واحد حقيقة الآخر كعلم ذلك الآخر بنفسه بالضرورة وهو نوع جهل وقصور، ثم علمه به يكون انفعاليًا تابعًا لوجود المعلوم فيكون في إحدى صفات الكمال أعني العلم مفتقرًا وهو يؤذن بالنقصان والإمكان {فتعالى} الله {عَمَّا يُشْرِكُونَ} تفريع على كونه تعالى عالمًا بذلك كالنتيجة لما أشار إليه من الدليل.
وقال ابن عطية: الفاء عاطفة كأنه قيل علم الغيب والشهادة فتعالى كما تقول زيد شجاع فعظمت منزلته على معنى شجع فعظمت، ويحتمل أن يكون المعنى فأقول تعالى إلخ على أنه إخبار مستأنف.

.تفسير الآية رقم (93):

{قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93)}
{قُل رَّبّ إِمَّا تُرِيَنّى} أي إن كان لابد من أن تريني لأن ما والنون زيدتا للتأكيد {مَا يُوعَدُونَ} أي الذي يوعدونه من العذاب الدنيوي المستأصل وأما العذاب الأخري فلا يناسب المقام.

.تفسير الآية رقم (94):

{رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)}
{رَبّ فَلاَ تَجْعَلْنِى فِي القوم الظالمين} أي قرينًا لهم فيما هم فيه من العذاب، ووضع الظاهر موضع الضمير للإشارة إلى استحقاقهم للعذاب، وجاء الدعاء قبل الشرط وقبل الجزاء مبالغة في الابتهال والتضرع، واختير لفظ الرب لما فيه من الإيذان بأنه سبحانه المالك الناظر في مصالح العبد، وفي أمره صلى الله عليه وسلم أن يدعو بذلك مع أنه عليه الصلاة والسلام في حرز عظيم من أن يجعل قرينًا لهم إيذان بكمال فظاعة العذاب الموعود وكنه بحيث يجب أن يستعيذ منه من لا يكاد يمكن أن يحيق به. وهو متضمن رد إنكارهم العذاب واستعجالهم به على طريقة الاستهزاء.
وقيل أمر صلى الله عليه وسلم بذلك هضمًا لنفسه وإظهارًا لكمال العبودية، وقيل لأن شؤم الكفرة قد يحيق بمن سواهم كقوله تعالى: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] وروى عن الحسن أنه جل شأنه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن له في أمته نقمة ولم يطلعه على وقتها أهو في حياته أم بعدها فأمره بهذا الدعاء.
وقرأ الضحاك. وأبو عمران الجوني {ترئني} بالهمز بدل الياء وهو كما في البحر إبدال ضعيف.

.تفسير الآية رقم (95):

{وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95)}
{الظالمين وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ} من العذاب {لقادرون} ولكنا لا نفعل بل نؤخره عنهم لعلمنا بأن بعضهم أو بعض أعقابهم سيؤمنون أو لأنا لا نعذبهم وأنت فيهم، وقيل قد أراه سبحانه ذلك وهو ما أصابهم يوم بدر أو فتح مكة، قال شيخ الإسلام: ولا يخفى بعده فإن المتبادر أن يكون ما يستحقونه من العذاب الموعود عذابًا هائلًا مستأصلًا لا يظهر على يديه صلى الله عليه وسلم للحكمة الداعية إليه.

.تفسير الآية رقم (96):

{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بما يَصِفُونَ (96)}
{ادفع بالتى هي أَحْسَنُ} أي ادفع بالحسنة التي هي أحسن الحسنات التي يدفع بها {السيئة} بأن تحسن إلى المسيء في مقابلتها ما استطعت، ودون هذا في الحسن أن يحسن إليه في الجملة، ودونه أن يصفح عن إساءته فقط، وفي ذلك من الحث له صلى الله عليه وسلم إلى ما يليق بشأنه الكريم من حسن الأخلاق ما لا يخفى، وهو أبلغ من ادفع بالحسنة السيئة لمكان {أَحْسَنُ} والمفاضلة فيه على حقيقتها على ماذكرنا وهو وجه حسن في الآية، وجوز أن تعتبر المفاضلة بين الحسنة والسيئة على معنى أن الحسنة في باب الحسنات أزيد من السيئة في باب السيئات ويطرد هذا في كل مفاضلة بين ضدين كقولهم: العسل أحلى من الخل فإنهم يعنون أنه في الأصناف الحلوة أميز من الخل في الأصناف الحامضة، ومن هذا القبيل ما يحكى عن أشعب الماجن أنه قال: نشأت أنا والأعمش في حجر فلان فما زال يعلو وأسفل حتى استوينا فإنه عن استواءهما في بلوغ كل منهما الغاية حيث بلغ هو الغاية في التدلي والأعمش الغاية في التعلي، وعلى الوجهين لا يتعين هذا الأحسن وكذا السيئة.
وأخرج ابن أبي حاتم. وأبو نعيم في الحلية عن أنس أنه قال في الآية: يقول الرجل لأخيه ما ليس فيه فيقول: إن كنت كاذبًا فأنا أسأل الله تعالى أن يغفر لك وإن كنت صادقًا فأنا أسأل الله تعالى أن يغفر لي.
وقيل: التي هي أحسن شهادة أن لا إلهإلا الله والسيئة الشرك، وقال عطاء. والضحاك: التي هي أحسن السلام والسيئة، وقيل: الأول الموعظة والثاني المنكر، واختار بعضهم العموم وأن ما ذكر من قبيل التمثيل، والآية قيل: منسوخة بآية السيف، وقيل: هي محكمة لأن الدفع المذكور مطلوب ما لم يؤد إلى ثلم الدين والإراء بالمروءة {نَحْنُ أَعْلَمُ بما يَصِفُونَ} أي بوصفهم إياك أو بالذي يصفونك به مما أنت بخلافه، وفيه وعيد لهم بالجزاء والعقوبة وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإرشاد له عليه الصلاة والسلام إلى تفويض أمره إليه عز وجل، والظاهر من هذا أن الآية آية موادعة فافهم.

.تفسير الآية رقم (97):

{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97)}
{وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين} أي وساوسهم المغرية على خلاف ما أمرت به وهي جمع همزة، والهمز النخس والدفع بيد أو غيرها، ومنه مهماز الرائض لحديدة تربط على مؤخر رجله ينخس به الدابة لتسرع أو لتثب، وإطلاق ذلك على الوسوسة والحث على المعاصي لما بينهما من الشبه الظاهر، والجمع للمرات أو لتوع الوساوس أو لتعدد الشياطين.

.تفسير الآية رقم (98):

{وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)}
{وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ} أي من حضورهم حولي في حال الأحوال، وتخصيص حال الصلاة وقراءة القرآن كما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وحال حلول الأجل كما روى عن عكرمة لأنها أحرى الأحوال بالاستعاذة منها لاسيما الحال الأخيرة ولذا قيل: اللهم إني أعوذ بك من النزع عند النزع، وإلى العموم ذهب ابن زيد، وفي الأمر بالتعوذ من الحضور بعد الأمر بالتعوذ من همزاتهم مبالغة في التحذير من ملابستهم، وإعادة الفعل مع تكرير النداء لإظهار كمال الاعتناء بالمأمور به وعرض نهاية الابتهال في الاستدعاء ويسن التعوذ من همزات الشياطين وحضورهم عند إرادة النوم، فقد أخرج أحمد. وأبو داود. والنسائي. والترمذي وحسنه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا كلمات نقولهن عند النوم من الفزع بسم الله أعوذ بكلمات التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون».

.تفسير الآية رقم (99):

{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)}
{حتى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الموت} {حتى} ابتدائية وغاية لمقدر يدل عليه ما قبلها والتقدير فلا أكون كالكفار الذين تهمزهم الشياطين وتحضرهم حتى إذا جاء إلخ، ونظير ذلك قوله:
فيا عجبًا حتى كليب تسبني

فإن التقدير يسبني كل الناس حتى كليب إلا أنه حذفت الجملة هنا لدلالة ما بعد حتى، وقيل إن هذا الكلام مردود على {يَصِفُونَ} [المؤمنون: 96] الثاني على معنى إن حتى متعلقة حذوف يدل عليه كأنه قيل: لا يزالون على سوء المقالة والطعن في حضرة الرسالة حتى إذا إلخ، وقوله تعالى: {وَقُل رَّبّ} [المؤمنون: 97] إلخ اعتراض مؤكد للأغضاء المدلول عليه بقوله سبحانه: {ادفع بالتى هي أَحْسَنُ} [المؤمنون: 96] إلخ بالاستعاذة به تعالى من الشيالطين أن يزلوه عليه الصلاة والسلام عما أمر به، وقيل على {يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91] الأول أو على {يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 92] وليس بشيء.
وجوز الزمخشري أن يكون مرورًا على قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لكاذبون} [المؤمنون: 90] ويكون من قوله سبحانه: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ} [المؤمنون: 91] إلى هذا المقام كالاعتراض تحقيقًا لكذبهم ولاستحقاقهم جزاءه وليس بالوجه، ويفهم من كلام ابن عطية أنه يجوز أن تكون {حتى} هنا ابتدائية لا غاية لما قبلها وتعقبه أبو حيان بأنها إذا كانت ابتدائية لا تفارقها الغاية، والظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه أن ضمير {أَحَدِهِمْ} راجع إلى الكفار، والمراد من مجيء الموت ظهور أماراته أي إذا ظهر لأحدهم أي أحد كان منهم أمارات الموت وبدت له أحوال الآخرة {قَالَ} تحسرًا على ما فرط في جنب الله تعالى: {رَبّ ارجعون} أي ردني إلى الدنيا، والواو لتعظم المخاطب وهو الله تعالى كما قوله:
ألا فارحموني يا إله محمد ** فإن لم أكن أهلًا فأنت له أهل

وقول الآخر:
وإن شئت حرمت النساء سواكم ** وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردًا

والحق أن التعظيم يكون في ضمير المتكلم والمخاطب بل والغائب والاسم الظاهر وإنكار ذلك غير رضي والإيهام الذي يدعيه ابن مالك هنا لا يلتفت إليه، وقيل: الواو لكون الخطاب للملائكة عليهم السلام والكلام على تقدير مضاف أي يا ملائكة ربي ارجعوني، وجوز أن يكون {رَبّ} استغاثة به تعالى و{ارجعوني} خطاب للملائكة عليهم السلام، ورا يستأنس لذلك بما أخرجه ابن جرير. وابن المنذر عن ابن جريح قال: زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله تعالى عنها. «إن المؤمن إذا عاين الملائكة قالوا: نرجعك إلى دار الدنيا؟ قال: إلى دار الهموم والأحزان بل قدومًا إلى الله تعالى وأما الكافر فيقولون له نرجعك؟ فيقول؛ رب ارجعوني» وقال المازني: جمع الضمير ليدل على التكرار فكأنه قال: رب ارجعني ارجعني ارجعني، ومثل ذلك تثنية الضمير في قفا نبك ونحوه.
واستشكل ذلك الخفاجي بأنه إذا كان أصل ارجعوا مثلًا ارجع ارجع ارجع لم يكن ضمير الجمع بل تركيبه الذي فيه حقيقة فإذا كان مجازًا فمن أي أنواعه وكيف دلالته على المراد وما علاقته وإلا فهو مما لا وجه له. ومن غريبه أن ضميره كان مفردًا واجب الاستتار فصار غير مفرد واجب الإظهار ثم قال: لم تزل هذه الشبهة قديمة في خاطري والذي خطر لي أن لنا استعارة أخرى غير ما ذكر في المعاصي ولكونها لا علاقة لها بالمعنى لم تذكر وهي استعارة لفظ مكان لفظ آخر لنكتة بقطع النظر عن معناه وهو كثير في الضمائر كاستعمال الضمير المجرور الظاهر مكان المرفوع المستتر في كفى به حتى لزم انتقاله عن صفة أخرى ومن لفظ إلى آخر وما نحن فيه من هذا القبيل فإنه غير الضمائر المستترة إلى ضمير جمع ظاهر فلزم الاكتفاء بأحد ألفاظ الفعل وجعل دلالة ضمير الجمع على تكرر الفعل قائمًا مقامه في التأكيد من غير تجوز فيه. ولابن جني في «الخصائص» كلام يدل على ما ذكرناه فتأمل انتهى كلامه.
ولعمري لقد أبعد جدًا، ولعل الأقرب أن يقال: أراد المازني أنه جمع الضمير للتعظيم بتنزيل المخاطب الواحدة منزلة الجماعة المخاطبين ويتبع ذلك كون الفعل الصادر منه نزلة الفعل الصادر من الجماعة ويتبعهما كون {ارجعوني} مثلًا نزلة ارجعني ارجعني ارجعني لكن إجراء نحو هذا في نحو قفا نبك لا يتسنى إلا إذا قيل بأنه قد يقصد بضمير التثنية التعظيم كما قد يقصد ذلك بضمير الجمع؛ ولم يخطر لي أني رأيته فليتبع وليتدبر.